إن يوم الإثنين الموافق 9 أغسطس، هو أول أيام شهر محرم وهو الذكرى السنوية الـ 1443 لهجرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
إن الهجرة التي هي بمثابة ميلاد بالنسبة للمسلمين، هي في الحقيقة نقطة تحول تاريخية بالنسبة لسائر البشرية. أما العنصر الذي يجعل من الهجرة ذات دلالة وأهمية فهو تصميم النبي صلى الله عليه وسلم وإصراره على تغيير ذلك المشهد المنافي للإنسانية الذي كان قائماً في عهد الجاهلية، وهو كذلك الإيمان الراسخ بالله تعالى للمسلمين الذين جعلوا من الحق سائداً على الباطل برفقته عليه السلام.
فبعد عهدٍ كئيب ضعفت فيه عقيدة التوحيد وتلاشت خلاله العدالة والحقانية والمرحمة واستعبد فيه الناس وأحاط فيه الظلم والجور بالحياة، قام الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله عز وجل رحمة للعالمين وأتباعه بخوض نضال وجودي من أجل عيش وإحياء قيم الإسلام العالمية. وقد أظهروا جلداً في القدرة على التخلي عن كافة ممتلكاتهم وأوطانهم الدنيوية في سبيل عقيدتهم وذلك من خلال مواجهة التحديات التي واجهوها بالإيمان والصبر. كما أنهم تخلصوا من خطر الفناء الذي واجهوه لقلة عددهم ولضعفهم من خلال الهجرة وقاموا بفتح أبواب عصر منير بعد أن ابتعدوا عن ظلمات الجاهلية؛ وقد وضعوا الأسس لعصر السعادة في المكان الذي وصلوا إليه. وإنهم قد قاموا بإنشاء حضارة رحمة لا نظير لها في المدينة المنورة التي حولوها إلى بلد الأمن والاستقرار والرفاه بعد أن امتزجوا بمبادئ الإسلام التي تهب الحياة.
ومن هذا الجانب، فإن الهجرة ليست هُروب عاجز من المشكلات الدنيوية؛ بل على النقيض من ذلك هي سعي وراء الأمل المتنامي الذي يتعلق بهيمنة التوحيد والعدالة والحقوق والأخلاق الفاضلة على سائر هذه الدنيا. وذلك لأن الهجرة، هي نتيجة جلية لغاية إنشاء عالم يمكن للجميع العيش فيه وقد ضمنت فيه كرامة الإنسان والحقوق الأساسية والحريات. وهي كذلك أقوى الدلائل على الامتثال لله عز وجل والوفاء للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى عزيمة العيش كمسلمين.
وإن الهجرة في الوقت نفسه لتعلمنا بأنه ينبغي الالتفاف معاً حول القيم من إيمان وشجاعة وصبر وتدبير في مواجهة التحديات والمعضلات وذلك دون الركون إلى اليأس على الإطلاق. وهي تظهر لنا أنه لا يمكن بلوغ النصر العظيم إلا من خلال النضال والكفاح بالتدبير والتوكل والامتثال والإصرار. فالهجرة، التي حدثت في وقت كانت قد أغلقت فيه كافة الأبواب وأصبحت التحديات خلاله لا يمكن تحملها وأحاطت المصائب فيه بالمسلمين من كل جانب، تشير إلى أن الله عز وجل لا بد أن يجعل مخرجاً لأولئك الذين يعلون الحق والحقيقة. وبالتالي، فإن ما يقع على كاهلنا هو أن نغرس روح الهجرة في قلوبنا وأن نلتف حول تلك القيم التي جلبتها الهجرة وكذلك أن نوجه همتنا لأجل العمل كي يسود الخير وجه هذه الأرض.
لا شك أن قراءة الهجرة من هذه الزاوية من شأنها أن تمنحنا الشجاعة والفطنة والبصيرة والصلابة فيما يتعلق بمحاربة كافة أشكال الشرور والكوارث والمصائب التي تحاصر عالمنا اليوم. كما أنها سوف تقوم بترسيخ إيماننا وعزمنا وإصرارنا على تجاوز التحديات التي نعيشها؛ وإنها سوف تفتح آفاقاً مهمةً فيما يتعلق بحلولٍ لمشكلاتنا .
وإنني انطلاقاً من هذا الشعور والفكر، أتوجه بالتهنئة لشعبنا العزيز ولكافة العالم الإسلامي بمناسبة العام الهجري الجديد، كما أنني أسأل الله عز وجل أن يبقى حس الهجرة من الباطل إلى الحق ومن الكذب إلى الحقيقة ومن الظلم إلى العدل ومن الكراهية إلى الرحمة حياً في قلوبنا على الدوام .
الأستاذ الدكتور علي أرباش
رئيس الشؤون الدينية