إخواني الأفاضل،
إننا نحيا فرحة ولهفة إدراكنا لليلة القدر في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك الذي يحيط حياتنا بالرحمة والمغفرة والبركة. نحمد ربنا عز وجل ونشكره كثير الحمد والشكر الذي بلغنا مرة أخرى ليلةً ذات بركة وطمأنينة كهذه الليلة.
إخواني الأعزاء،
إن ليلة القدر؛ هي الليلة التي بدأ فيها نزول كتابنا المليء بالهداية والرحمة والحكمة كتاب القرآن الكريم الذي ميز وفرق بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الحلال والحرام، وبين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر، وبين الصلاح والفساد، وهي الليلة التي أحاط فيها الله عز وجل وجه هذه الأرض برحمته وعنايته.
إن هذه الليلة هي ليلة العفو والمغفرة. وهي مناخ للطمأنينة يتنزل فيها الملائكة إلى الدنيا ويمتلئ خلالها وجه الأرض بالسلام حتى مطلع الفجر. ولهذا، فقد قال رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم "مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ". كما أنه عليه السلام أوصى من يدركون هذه الليلة بأن يدعو الله قائلين، "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي".
لذا، فلنستغفر في هذه الليلة من أجل أيامنا التي أمضيناها في الغفلة بعد أن نتوجه لربنا عز وجل بخالص توبتنا. ولنتخذ من وقت السكينة هذا فرصةً فنطلب العفو من ربنا سبحانه وتعالى على ما أهملناه من نسك وعبادات وطاعات. ولنتحلى بالعزم على بناء مستقبل أكثر جمالاً من خلال أدعيتنا وتضرعنا. ولنتعهد بزيادة أعمالنا الصالحة من أجل أنفسنا وأسرنا وشعبنا ومن أجل الإنسانية. ولنعد النظر فيما يمكن لنا القيام به من أجل سلامة الإنسانية وصلاحها وخيرها. ولنهرول لمد يد العون والمساعدة المادية والمعنوية للمحتاجين والأيتام والمشردين والفقراء والمساكين ومن بهم فاقة. ولنجعل من هذه الليلة وسيلةً لاستقامتنا ولمقاومتنا المعنوية عن طريق انسلاخنا من شهوات الدنيا الزائلة ومن آمالها التي لا تنتهي.
يجب أن أعبر بكل أسف وحزن بأن القدس التي هي مدينة الإنسانية العريقة ووطن السلام والقبلة الأولى للإسلام قد تعرضت قبل ليلة القدر المباركة مباشرةً لاحتلال بربري وحشي. حيث أن مجموعة من الطغاة والمستبدين الذين يتجاهلون الإنسانية والضمير والأخلاق والقوانين الدولية، قاموا بالاعتداء على المسلمين في المسجد الأقصى المبارك، ومارسوا ضدهم وحشية كبيرة قبيل عيد الفطر وأمام أعين العالم أجمع.
وعلى النحو نفسه، فإن المحتلين ومن خلال سياساتهم الممنهجة الظالمة، يقومون بإخراج الفلسطينيين قسراً من بيوتهم وإسكان المحتلين مكانهم.
إن الحل الوحيد فيما يتعلق بهذه النقطة، هو أن يجتمع ويتحد كافة المسلمين ويقوموا بحماية القدس على أقوى وجه، وأن يضعوا حداً للظلم والاحتلال. وذلك لأن هؤلاء المستبدين الذين يقومون بالاعتداء على المسجد الأقصى المبارك، يستمدون قوتهم من تشتت الأمة وتفرقها. ولهذا، فلنقم بترسيخ أخوة الإيمان لدينا من خلال وعي الأمة وذلك بصفتنا مسلمين ككل فوق هذه الأرض. ويجب أن نفوت الفرصة على تلك الفتن التي من شأنها أن تجرح وحدتنا وتضعف قوتنا. ولنضع حداً للمستبدين الظالمين الذين حولوا جغرافيتنا إلى ديار دماء ودموع.
لا شك أنه ليس هناك ظلم واستبداد يمكنه أن يمنع نيل فلسطين وغزة والمسجد الأقصى المبارك لحريته. ولن تتمكن أي قوة ظالمة من تدنيس مدينة جعل الله ما حولها مباركاً. وإن كافة الظالمين كانوا ضحية للنار التي أوقدوها بأنفسهم، وإن التارخ كان شاهداً على هلاك الكثير من الظالمين والمستبدين. وإنني لأؤمن بأن المسجد الأقصى سوف ينال حريته، وأن القدس ستعود مدينة السلام من جديد. ولكن أولائك الذين يبقون صامتين بينما تنتهك عزة القدس، ويتم الاعتداء بلا إنصاف على حياة الأبرياء من الناس وعلى معتقداتهم وأفكارهم وحرياتهم، وبينما يتم تدمير وتخريب المدينة التي قدست بالوحي، سيكونون أسرى لدى الضمير الإنساني، وعراة أمام التاريخ والمستقبل، وسيفتضحون في حضرة رب العالمين عز وجل.
وإنني انطلاقاً من هذا الشعور والفكر أهنئ شعبنا العزيز وسائر العالم الإسلامي بمناسبة ليلة القدر. وأسأل مولانا سبحانه وتعالى أن يكون دعاءنا وتضرعنا الذي نقوم به في هذه الليلة وسيلة لتقوية وحدتنا المجتمعية، ولوحدة واتحاد واجتماع العالم الإسلامي، وللسلام والاستقرار والسعادة الانسانية، مع تمنينا بقبول ما صمناه من صيام وما أديناه من عبادات.
كما أنني بهذه المناسبة أرجو أن نوحد قلوبنا وأدعيتنا من أجل فلسطين في ليلة القدر هذه التي تحيط فيها رحمة الله عز وجل بالأرض، كما وأسأل ربنا عزّ وجل أن لا يحرمنا من عنايته.
الأستاذ الدكتور علي أرباش
رئيس الشؤون الدينية